5.12.12

النظرية التقديرية في كتاب سيبويه


لا ننكر أن النحو من العلوم الأساسية في تعليم اللغة العربية، وخاصة للدارسين غير الناطقين بها، فلا يمكن أن يستيطر أحد في اللغة العربية بدون سيطرته في النحو. والمزيد من ذلك، أن للعربية والنحو ربطا كارتباط ناحيتي النقود لا ينفصل بعضها بعضا. ففي النظر العام، إنهما وحدة؛ يعني أن في تعليم اللغة العربية تعليم النحو، وهكذا ينعكس الحال، أي لو نتعلم النحو نتعلم في نفس الوقت اللغة العربية.

يدل ذلك أن النحو من خصائص اللغة العربية في موقعها بين اللغات الأجنبية الأخرى لدينا الناطقين بغيرها. فهناك جريمر (Grammar) في اللغة الإنجليزية، أو نوريوخو شيكين (Noryooku Sikeu) في اللغة اليابانية، وفي اللغة العربية النحو، وهلم ارتباط أي اللغات بقواعدها اللغوية.

ومن ثم أننا نجد كثيرا من الدارسين يرون أن النحو كشيئ مخيف لدي المبتدئين؛ هؤلاء ينظرون أن النحو لا يزيد من العلم لمعرفة صواب شكل الجملة وخطاءه فحسب؛ لمعرفة أن الفاعل لا بد أن يرفع والمفعول ينصب، وهلم جرى. 

وهذا كله مما يسبب وجود فرقة التي تعارض ما ثبت في النحو، حيث يفنون لزوم تعلم القواعد اللغوية في تعلم اللغة المدروسة، وليس من الضروري عندهم أن يتكلف متعلِّم أي اللغة بتعلم قواعدها اللغوية. فلا يحتاج كفاءة النحو لكفاءة اللغة العربية، وهذا ما يذهب –للأسف- بعض العلماء العرب، نذكر واحدا منهم زكريا أوزون، كان يتردد في نقد النحو العربي وينتباه الخوف أحيانا في ربط النحاة النحو بالقرآن الكريم، فجعلوه –عند زكريا- كالقرآن لا يحق لأحد نقده أو معارضته. وكان بذلك يؤسف بكثرة من يقرأ النص العربي مراعيا قواعد النحو أولا ثم المعنى، فهو مهتم بأن يرفع وينصب ويجزم قبل أن يفهم، وهناك من يعود ليقرأ النص قراءة صامتة بعد قراءته الجهرية ليستوعب المعنى تماما، أي أن الشكل أساس القراءة الصحيحة ثم يأتي بعد ذلك المضمون الذي كثيرا ما نطوعه غصبا عنه ليخضع لقواعد النحو (الشكل) [1]

يتضح لنا مما راءاه زكريا أن النحو بطبيعته يكون مخيفا عليه لمتعلمي اللغة العربية المبتدئين، ولا نريد أن نضيع الوقت هنا بعرض سبب خيفتهم كالناطقين بغير العربية إلى مادة النحو، إذ الأمر نفسه يقع للناطقين بها.

ومن ثم، لم يزل الباحث ينظر أهمية النحو في العربية فضلا عن أهمية القواعد اللغوية الأخرى في تعليم اللغات المدروسة سوى العربية. وهذا ما يراه كثير من العلماء العرب الذين لهم العناية بالإعراب، وكان حسهم به دقيقا يقظا، يعدّونه عنوان الثقافة التامة، والأدب الرفيع، والخلق المهذب. كتب إبراهيم مصطفى على أنهم قالوا: اللحن هجنة على الشريف. وكان الرجل منهم إذا تكلم فلحن سقط من أعينهم. وكان خالد بن صفوان يحسن الكلام ويلحن في الإعراب، فقال له مرة بلال بن أبي بردة: "تحدثنى حديث الخلفاء وتلحن لحن السقاءات". [2]

نعم، إن غاية النحو ليست لمعرفة الصواب والخطاء في ضبط أواخر الكلم فحسب، وإن كان المتتبع لتحديد غاية النحو يلحظ أن النحاة المتأخرين هم الذين يجعلون غاية النحو هي تمييز صحيح الكلام من فاسده. ولعل الانحراف بغاية النحو إلى هذه الزاوية الضيقة يرجع سببه –مع ما يرجع إليه من أسباب أخرى- إلى تخلي أبناء العربية لظروف ودواع مختلفة عن مستوى اللغة الفصيح، واصطناع العاميات بديلا عنه، بحيث لم تعد العربية الفصيحة سليقة للمتكلم بها؛ ودرجت على ذلك العادة، وألفت هذه الغاية منه حتى أصبحت هي الغاية الوحيدة الواضحة، وصار ينكر على النحو أن "يتطاول" إلى غاية سواها.

ولعل تحديد غاية النحو من قبل المتأخرين على هذا النحو قد اعتمد أيضا على ما رُوي من أخبار وروايات مختلفة لابست فترة نشأة النحو الأولى، وإن كثيرا منها ليدور حول تفشى اللحن وشياع الخطاء في ظاهرة الإعراب على وجه التخصيص، وفي بعض آيات القرآن الكريم على وجه أخص. وقد اعتبرت هذه الروايات وما تدل على أسباب داعية إلى نشأة النحو العربي.

ولا ينكر الباحث أن يكون ما تدل عليه هذه الروايات وأمثالها من بين الأسباب التى دعت إلى نشأة النحو العربي. بل قد تكون المحافظة على النص القرآني من أن يتطرق إلى لغته العليا لحن أو فساد من أهم الأسباب الداعية إلى ذلك، ولكن هناك غاية أخرى لا تقل عن هذه الأهمية وإثارة ودفعا للبحث، هذه الغاية هي الرغبة القوية في معرفة أسرار التركيب القرآني، وهي بعد ذلك الرغبة الإنسانية في تعرف أهم المظاهر الإنسانية بإطلاق: اللغة. وتمييز التراكيب بعضها من البعض الآخر، ومعرفة خصائصها، واكتناه أسرارها، وقد كان من حسن حظ العربية في فترة فتوتها الناضجة أن ينزل بها القرآن الكريم، وأن يجد فيه العرب نموذجا عاليا من البيان للغة، وأن يكون هذا القرآن العظيم معجزا، وأن يحاولوا ما وسعتهم المحاولة أن يتعرفوا أسرار إعجازه فضلا عن أن يضبظوا نصه ويضعوا القواعد التي تعين على ذلك.[3]

فاتضح لنا بوسعة النحو الذي يكون فرعا من فروع اللغة العربية. ولا يمكن بذلك أن يبحث النحو كله. فينحصر البحث إلى نقطة من النقاط العديدة لقسم من أقسام مبحث النحو الواسع، وتلك النقطة هي التقديرية في اللغة العربية.

إنه من أهم ما يميز العربية أن عناصر الجملة فيها أحيانا تذكر جميعا وأحيانا يحذف بعضها بعضا اعتمادا على دلالة السياق. ومما هيأ لذلك وساعد عليه أن العربية بدأت لغة شعرية، ومعروف أن الشاعر يقيد بأنغام معيَّنة في كل بيت، وقد يسوقه هذا التقيد إلى الحذف في البيت أو في الجملة هنا أو هناك. مما عرض عناصر الجملة جميعا للحذف، فتارة يحذف المبتدأ، وتارة يحذف الخبر، وقد يحذف الفاعل أو الفعل أو المفعول. وقد يحذف حرف الجر أو التنوين أو أداة التعريف، وقد يحذف جواب القسم أو جواب الشرط.[4] ويقال ما يحذف بالإضمار، ومثاله في كتاب سيبويه كثير.

فما يحذف أو يضمر من الكلمة أو الجملة، يمكن تعبيرها على سبيل التقدير. حيث يقول النحاة: "تقديره" أو "تقديرها".  وسيأتي بحثه منفصلا فيما بعد.  

ولتركيز هذا البحث، يحاول الباحث أن يراجع بحثه إلى كتاب سيبويه، لعدة علل يمكن تعبيرها في خيار هذا الكتاب. من تلك العلل الرئيسية كون الكتاب مرجعا مهما للنحاة بعد سيبويه إلى يومنا الآن. وإن أكثر الباحثين في النحو العربي دائما يجدون أنفسهم مدفوعين إلى النظر والتفتيش في كتاب سيبويه بوصفه أول أثر نحوي باق يمثل جهود المرحلة الأولى، بل يمثل نضج الفهم النحو الراشد الذي يعني بتمييز التراكيب وكشف خصائصها وتواؤمها مع ملابستها.

واختار الباحث كتاب سيبويه لمعالجة هذه الدراسة لما كان أول كتاب معروف لدينا في النحو، ولأنه أخذ، كما يبدو في الكتاب، بآراء من سبقه من النحويين وخاصة الخليل بن أحمد الفراهيدي، ولأنه يعرض مجرد شذرات، بل يحاول أن يبني نظرية نحوية جعل في أسسها العامل والتقدير.

 فسيبويه –كما يقول الشاطبي_ "وإن تكلم في النحو، فقد نبّه في كلامه على مقاصد العرب، وأنحاء تصرفاتها في ألفاظها ومعانيها، ولم يقتصر فيه على بيان أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب ونحو ذلك، بل هو يبين في كل باب ما يليق به حتى إنه احتوى على علمى المعاني والبيان ووجوه تصرفات الألفاظ والمعاني.[5]

وإن كتاب سيبويه مجهود علمي يدل على دقته في الإلمام  بالقواعد النحوية، فهو صورة لجهوده وجهود من سبقه من العلماء، إلا أن شخصيته فيه واضحة قوية، وقد ظهرت هذه الشخصية في ترتيب الكتاب وتبويبه، وحسن تعليل القواعد، وجودة الترجيح عند الإختلاف، واستخراج الفروع من القياس الذي زخر به الكتاب، وفي الحرص على الشواهد الوثيقة.[6]

علاوة على ذلك، إنه لمما يهم  تعبيره هنا أن النطرية التقديرية ثمرة من ثمرات جهد العلماء العرب القدماء، أقدم مما حصله اللغويون الأوربا –مثلا- في اللغة الإنجليزية. وبهذا يمكن الإنكار ادعائهم عن النظرية الحذفية، إذ أن في الواقع كانت من مبحث العلماء العرب القدماء، أولهم سيبويه. هذا كله مما يدعو الباحث أن يختار كتاب سيبويه مرجعا لبحثه.

 وبعد، إن هذا البحث –بالحقيقة- يرجى أن يكون مصدرا لتنمية تعليم مادة النحو وتوظيفها في إندونيسيا عاما، وخاصة في الجامعة نهضة العلماء رادين رحمة التي يكون الباحث مدرس اللغة العربية فيها. فترتبت الكلمات لموضوع هذا البحث:
النظرية التقديرية في كتاب سيبويه وتوظيفها في تعليم مادة النحو
بالتطبيق على الجامعة نهضة العلماء رادين رحمة مالانج.


[1]  زكريا أوزون، 2002: جناية سيبويه الرفض التام لما في النحو من أوهام، ص: 13، ط.1، رياض الرئيس للكتب والنشر، لبنان
[2]  أنظر في كتابه: إحياء النحو، ط. الثانية، ص: 9، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، 1992
[3]  محمد حماسة عبد اللطيف، النحو والدلالة مدخل لدراسة المعنى النحوي الدلالي، ط. الأولى، ص: 25-26، دار الشرف، القاهرة، 2000
[4]  شوقي الضيف، تجديد النحو، ط. الثانية، ص: 235، دار المعارف، القاهرة، دون السنة
[5]  محمد حماسة عبد اللطيف، نفس الكتاب، ص: 26
[6]  فخر صالح سليمان قدارة، مسائل الخلافية بين الخليل وسيبويه، ص: 33، دار العمل للنشر والتوزيع، الأردن، 1990