18.12.11

الفهم - عند ابن خلدون- أساس في تعلم اللغة العربية

إن الحفظ وحده لا يكفي لامتلاك اللغة العربية، بل لا بد من أمر هام وهو الفهم، إذ الفهم هو الذي يمكن الحافظ من استعمال واستثمار محفوظه، في المقام المناسب. إذ لا يمكن أن يتصرف المتكلم في محفوظه إذا لم يفهمه، قال ابن خلدون يشير إلى مسألة فهم المحفوظ:"... ثم يتصرف بعد ذلك (الحفظ) في التعبير عما في ضميره على حسب عباراتهم، وتأليف كلماتهم، وما وعاه وحفظه من أساليبهم وترتيب ألفاظهم؛ فتحصل له هذه الملكة بالحفظ والاستعمال، ويزداد بكثرتها رسوخا وقوة، ويحتاج مع ذلك إلى سلامة الطبع والتفهم لمنازع العرب وأساليبهم في التراكيب ومراعاة التطبيق بينها وبين مقتضيات الأحوال"

إن الفهم أساس بالنسبة لابن خلدون في حصول الملكة اللغوية، بمعنى أن الحفظ بدون فهم ليس بشيء، وقد تحدث عن أهمية الفهم في موطن آخر، وذلك حين حديثه عن الركن الرابع من أركان علم العربية، وهو علم الأدب، حيث قال:"...والمقصود بذلك كله أن لا يخفى على الناظر فيه (علم الأدب) شيء من كلام العرب وأساليبه ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه، لأنه لا تحصل الملكة من حفظه إلا بعد فهمه، فيحتاج إلى تقديم جميع ما يتوقف عليه فهمه"

وأمر الفهم عند ابن خلدون يتضح أكثر في فصل:" في تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه"، حيث رأى أن القصور اللغوي عند أهل المغرب وإفريقية، ناتج عن اقتصارهم على حفظ القرآن الكريم، دون سواه من كلام العرب الفصيح شعرا ونثرا، ورغم أن ابن خلدون فسر هذا القصور اللغوي عند المغاربة وأهل إفريقية، تفسيرا آخر، وهو أن حفظ القرآن وحده لا ينتج عنه ملكة لغوية لعجز البشر عن الإتيان بمثله، قال:" فأما أهل إفريقية والمغرب، فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة؛ وذلك أن القرآن لا ينشأ عنه في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله، فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها، وليس لهم ملكة في غير أساليبه، فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي، وحظه الجمود في العبارات وقلة التصرف في الكلام".

وأراد أن يعزز هذه الفكرة بوصف حال أهل إفريقية الذين يخلطون حفظ القرآن بحفظ "عبارات العلوم في قوانينها"، فلذلك هم أقدر على التصرف في الكلام، بيد أن ملكتهم كما قال ابن خلدون قاصرة، لأن محفوظهم من القوانين العلمية النازلة عن البلاغة. لكن لا يمكن الاطمئنان إلى هذا التفسير، ذلك أنه في مقارنته بين أهل المغرب وإفريقية والأندلس، ذهب إلى أن الأندلسيين اكتسبوا ملكة لغوية جيدة لأنهم لم يقتصروا في تعليمهم على حفظ القرآن، بل خلطوا ذلك برواية الكلام الفصيح شعرا ونثرا، واهتموا كذلك بمدارسة اللغة العربية، حيث قال:" وأما أهل الأندلس فأفادهم التفنن في التعليم وكثرة رواية الشعر والترسل ومدارسة العربية من أول العمر حصول ملكة جيدة صاروا بها أعرف في اللسان العربي"

يبدو أن سبب حصول الملكة اللغوية للأندلسيين هو اعتمادهم الفهم إلى جانب الحفظ، ولعل هذا ما يقصد ابن خلدون بقوله "مدارسة العربية"، وقد أقر ابن خلدون بجودة مذهب ابن العربي في التعليم وأعجب به أيما إعجاب، وهو مذهب يدعو إلى الفهم قبل الحفظ، ومذهبه أن يتعلم المتعلم العربية أولا ثم الشعر ثم الحساب ثم القرآن الكريم، وقد اعتبر تعليم العربية والشعر والحساب مقدمة ضرورية تؤهل المتعلم لحفظ القرآن ودراسته، وأنكر المذهب الذي كان سائدا في تعليم الولدان، والذي كان يبدأ بتحفيظ القرآن، حيث قال:" ويا غفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في أول عمره، يقرأ ما لا يفهم وينصب في أمر، غيره أهم عليه منه" ، غير أن ابن خلدون رغم إقراره بأن ما دعا إليه ابن العربي مهم، لأنه يدعو إلى تقديم ما يساعد على فهم كتاب الله قبل حفظه، فإنه خرّج المذهب التعليمي السائد تخريجا آخر، وهو أن آباء المتعلمين كانوا يحرصون على أن يحفظ أبناؤهم القرآن الكريم في الصغر، لأنهم كانوا يرون أن مرحلة الطفولة هي المرحلة المناسبة لحفظ كلام الله؛ إذ يكون المتعلم منقادا خاضعا لأمر أبيه، فإذا كبِر وشب ربما انساق وراء الملاهي، ولا نجد أحسن من تعبير ابن خلدون في هذا التبرير، حيث قال:" وهو لعمري مذهب حسن، إلا أن العوائد لا تساعد عليه، وهي أملك بالأحوال، ووجه ما اختصت به العوائد، من تقديم دراسة القرآن، إيثارا للتبرك والثواب وخشية ما يعرض للولد في جنون الصبا من الآفات والقواطع عن العلم، فيفوته القرآن، لأنه مادام في الحجر منقاد للحكم، فإذا تجاوز البلوغ وانحل من ربقة القهر، فربما عصفت به رياح الشبيبة، فألقته بساحل البطالة، فيغتنمون في زمان الحجر وربقة الحكم تحصيل القرآن له لئلا يذهب خلوا منه. ولو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم، وقبوله التعليم، لكان هذا المذهب الذي ذكره القاضي أولى ما أخذ به أهل المغرب والمشرق"

ومسألة الفهم أثارت قضية أخرى، وهي اعتبار ابن خلدون ملكة المغاربة قاصرة. وهنا تطرح أسئلة كبرى، من بينها: هل حقا كانت لغة المغاربة وأهل إفريقية قاصرة ضعيفة؟ وماذا يقصد بالضبط ابن خلدون بقصور الملكة اللغوية؟ أ ليس في التراث اللغوي والأدبي المغاربيين ما لا يوافق حكم ابن خلدون؟ وماذا عن ملكة ابن خلدون نفسه وهو من أهل المغرب؟

ومن المسائل الأخرى التي فسر بها قصور الملكة اللغوية عند المغاربة وأهل إفريقية؛ العجمة، فقد خص فصلا خاصا لمعالجة مسألة العجمة التي اعتبرها عائقا حقيقيا لاكتساب اللغة العربية، حيث قال:" فأهل إفريقية والمغرب لما كانوا أعرق في العجمة وأبعد عن اللسان الأول، كان لهم قصور تام في تحصيل ملكته بالتعليم" وقد استدل على رأيه هذا بنص أسلوبه ركيك، رغم أن كلماته فصيحة، قال ابن خلدون :" ولقد نقل ابن الرقيق أن بعض كتاب القيروان كتب إلى صاحب له:" يا أخي ومن لا عدمت فقده، أعلمني أبو سعيد كلاما أنك كنت ذكرت أنك تكون مع الذين تأتي، وعاقنا اليوم فلم يتهيأ لنا الخروج. وأما أهل المنزل الكلاب من أمر الشين فقد كذبوا هذا باطلا، ليس من هذا حرفا واحدا. وكتابي إليك وأنا مشتاق إليك إن شاء الله"

وهذا كلام يحتاج إلى تحقيق. ومهما يكن من أمر فإن اعتبار ابن خلدون العجمة عائقا لتعلم اللسان العربي أمر يثير مسألة ما يعرف اليوم بالازدواج اللغوي، وهو إلى ذلك أمر لا يمكن التسليم بها بسهولة، ذلك أن ابن خلدون نفسه، يقر في فصل صريح أن الأعاجم هم من خدموا اللغة العربية وعلومها، ورغم أن ابن خلدون حاول أن يظهر أن لا تناقض بين هذا وذاك، فالمسألة ليست بهذه البساطة، فقد عقد فصلا خاصا تحت عنوان:" في أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم" وبعده مباشرة عقد فصلا آخر يناقضه وهو:" في أن العجمة إذا سبقت إلى اللسان قصرت بصاحبها في تحصيل العلوم عن أهل اللسان العربي"، وقال يحاول نفي هذا التناقض:" وإذا قرن (المستعجم) بنظيره من علماء العرب وأهل طبقته منهم، كان باع العربي أطول وملكته أقوى، لما عند المستعجم من الفتور بالعجمة السابقة التي يؤثر القصور بالضرورة، ولا يعترض ذلك بما تقدم بأن علماء الإسلام أكثرهم العجم، لأن المراد بالعجم هنالك عجم النسب لتداول الحضارة فيهم التي قررنا أنها سبب لانتحال الصنائع والملكات ومن جملتها العلوم.

وأما عجمة اللغة فليست من ذلك، وهي المرادة هنا" إن في كتاب ألبير حبيب مطلق نصا صريحا يبين أن الأعاجم من المسيحيين قد استطاعوا أن يكتسبوا اللسان العربي بسرعة مذهلة، قال: " ولا بد أن حركة"الاستعراب" كانت قوية وخاصة بين الأجيال الناشئة، وهذا هو الذي تعبر عنه صرخة "ألفارو" حين قال:" إن إخواني المسيحيين يستمتعون بقصائد العرب وحكاياتهم، فهم يدرسون مؤلفات علماء الكلام والفلاسفة المسلمين لا لينقضوها، وإنما ليحرزوا أسلوبا عربيا صحيحا ناصعا. أين تجد اليوم بين الناس من يقرأ التعليقات والشروح اللاتينية على الكتاب المقدس؟...يا للحسرة! لقد نسي المسيحيون لغتهم، وما تكاد تجد واحدا في كل ألف يستطيع أن يكتب إلى صديقه رسالة بلغة لاتينية سليمة. فإذا كان الأمر كتابة العربية فما أكثر من يستطيعون التعبير عن نفوسهم بتلك اللغة في براعة عظيمة! بل هم ينظمون أشعارا تفوق في صحتها الشكلية على ما ينظمه العرب أنفسهم"، ومعلوم أن الإسلام كان عاملا أساسيا في تعرب الشعوب غير العربية التي أسلمت، قال حسن إبراهيم حسين:" ...فإن من اعتنق هذا الدين من غير العرب، كان يرى لزاما عليه أن يتعلم اللغة العربية وآدابها حتى يتيسر له قراءة القرآن ودراسته، وبذلك يجمع بين ثقافته القومية والثقافة العربية"
ومن الملاحظات المهمة التي يحسن ذكرها هنا، هي أن ابن خلدون يرى أن الإنسان لا يمكن أن يكتسب إلا ملكة جيدة واحدة، بمعنى أنه يصعب اكتساب ملكتين اثنتين جيدتين، سواء في اللغة أم العلوم أم الصنائع. وقد عبر عن هذه الفكرة في مواطن عديدة من المقدمة، ومن ذلك ما ذكر سابقا من أن العجمة إذا استحكمت في اللسان عاقت عن امتلاك لغة ثانية، وكذلك بالنسبة للشعر والنثر، فهو يرى أنه قلما يجيد إنسان الفنين معا.